يحيى الصوفي - سويسرا -
جنيف تم التعليق في 29/06/2005 – القصة العربية
أخي الأستاذ سمير الفيل سعدت بمرورك وكلماتك حول الحكاية التي
تحولت إلى قصة قصيرة تدغدغ ذكرياتنا الحلوة حول علاقة الابن ( الابنة) بأمه
أو أبيه ودعني أساهم في نبش هذه الذكريات ببعض الفلسفة التي تعودت عليها
فقد استطيع من خلالها إعطاء لمحات ولو بسيطة عن الطريقة التي أعالج بها تلك
الذكريات ( الهموم ) - إذا أحببت تسميتها- وسأقوم بتجزئتها واضع كل واحدة
منها كرد على مشاركة احد الأصدقاء ( زوار وقراء ) هذه القصة
فلقد بدأتها ( أن يبقى طفلا وهو على مشارف العشرين من العمر يتلمس
الحنان والاهتمام منها وكأنه لم يبارح طفولته بعد هو اقل ما يمكن له أن
يفعله ليحافظ على توازنه وتسامحه وعنفوانه!. ) لأشير إلى البراءة التي
يتحلى بها وتمسكه بطفولته لما تمنحه تلك الطفولة من قوة وعزيمة ومقدرة على
مواجهة الحياة دون أن يفقد توازنه وتسامحه وعنفوانه.؟
إنها الجرعات التي نحتاجها -والتي لا غنى عنها لأي منا ومهما بلغنا
من العمر أو المراكز الاجتماعية- وفي كل يوم لكي نحافظ على تلك الشعرة
البسيطة الضعيفة ( شعرة معاوية كما يسمونها ) التي تصلنا بمحيطنا ومجتمعنا
وتنظم علاقتنا بالآخرين ( الغرباء عنا في الطباع والتربية والثقافة ) دون
أن تنقطع .!؟
فهذه العلاقة (التي تبدأ لحظة الخلق في الرحم) وكل ما يتبعها من
اهتمام وحنان وتربية هي مرجعية أي منا. والبوصلة المركزية التي تدلنا على
الجهة التي علينا تتبعها في حل كل المعضلات التي تواجهنا مهما كانت صعبة
ومستحيلة ...لما تختزنه من تجربة وخبرة تتوج دائما بالثقة المطلقة ....فلا
احد يمكن أن يشك للحظة واحدة بالحب الوحيد المطلق والأزلي والصدق فيه
النابع من قلب أم!؟.... فالكل يخدع.... والكل يكذب... والكل يخون الأمانة
ويلعب بالمشاعر ويلحق بنا الضرر... إلا الأم فهي الوحيدة التي تملك الصدق
فيما تفكر وتقول وتفعله معنا.
ومن هذا المنطلق تبدو هشاشة وقوة علاقة الفرد مع المجتمع متمثلة
بهذا الكم الهائل من الاهتمام والحنان الذي منح له... فمن منا لا يسمع صدى
عبارات التسامح أو التشجيع أو التحذير في كل أمر نتناوله ونخوض فيه ...إنها
ذاكرتنا الجماعية ووجداننا وناموسنا الفطري الذي نتحسس به طريق ومشوار
حياتنا بثقة مهما كان مظلما.
* * *
ومن هذا المنطلق أخي الوسيم د. أسد محمد نجد بان العلاقة ( ماما+
بابا =أبوة وطفل) وأنا أضيف (أمومة وطفل) كما ألمحت إليه في تعليقك ليست
حتمية فلكل قاعدة شواذها وأنا هنا لا أتناول شواذ القاعدة -وهم كثر ويثيرون
الرهبة والخوف وفي بعض الأحيان القرف-
لان نظرتي إلى الذكر والأنثى ( أب وأم ) تتجاوز الشكل المادي والثوب
الدنيوي الذي يلبسونه لارتفع به إلى القمة... إلى الروح.
وهذا مرده -ربما- لإيماني بان الإنسان بشقيه ( ذكر وأنثى) يتمتع بنفس
المقدرة على العطاء ولو ببعض الخصوصية التي تميز احدهما عن الآخر والتي
تشبه إلى حد ما لمسات فنان موهوب بالفطرة... وآخر يمارسها بالتعلم وبحكم
الضرورة والأمر الواقع... وقد لا يختلف إبداعهما في ممارسة دورهما إلا
بالمرونة أو الصعوبة التي يلاقيانها.
وما يهمنا منهما في النهاية هو النتيجة التي توصل بذلك المخلوق
الضعيف ( الطفل) إلى بر الأمان.
خاصة وإننا نعيش عصر زجاجات الحليب الاصطناعي وحاضنات ( المربيات ذو
اللكنات واللهجات واللغات والعواطف الغريبة) مرتزقة تتعامل مع الطفل وكأنه
حيوان منزلي أليف يببعده عن مصادر قوته ونقاط ارتكازه الوحيدة التي يحتاجها
في حياته كحق طبيعي له يمنحه السعادة والكمال.... وقد يجده في أب يعيره
اهتمام إضافي عما هو مخصص له... بحيث يوجد له ذلك الحضن الدافيء والصدر
الحاني والدعة الأنثوية المفقودة.
* * *
وهذا سبب ما أخذت به يا صديقي العزيز الأستاذ محمد الشربيني بقولك
(مشروعية الاختلاف المكفولة للجميع ) وأنا أوافقك عليه تماما وذلك لأننا لم
نعد نلمس حولنا تلك الأم التي تعتني وتربي وتغدق الحنان على أطفالها بشكل
مجرد وبمعزل عن تصفيات الحساب التي تمارسها إذا ما تعرضت للأذى أو المهانة
أو الاهانة من أب ( ظالم ) غير مسئول لتصب جام غضبها على بريء !؟.
وأنا ها هنا أتساءل: كم أم في هذا العالم تشبه أمي ؟.
كم أم يمكن أن ترضع طفلها الذي يحمل رقم الثالث عشر بين أطفالها
ولأكثر من عامين دون أن تمل أو تكل أو تصاب بالإحباط أو الفتور.؟....
فتستقبله فرحة وكأنها تستقبل أول أولادها فلا تشمئز من قيء يصبه عليها -بعد
أن تكون قد انتهت من زينتها وتعطرها- أو أنين أو مرض أو شكوى.!؟...تشجعه
نهوضه الأول على قدميه وتصفق له بروز أولى أسنانه ...وتظهر له إعجابها به
وغبطتها عن كل عمل ايجابي يؤديه...فلا تترك مناسبة حسنة أو سيئة إلا وأخذت
زمام المبادرة فيها لتدير إخفاقاته أو نجاحاته بمنتهى الحرص والمسؤولية...
فتلازمه طفولته... وتحرص عليه في فتوته ....وتصادقه في شبابه ...فيكون طفلا
حيث يكون... وصبيا فتيا حيث يجب أن يكون... وشابا تفخر به متى يكون....وفوق
كل هذا لا تميز بينه وبين من سبقوه في العطاء...فهي نبع من الكرم والحنان
لا ينبض......كم أم في هذا الكون تشبه أمي.؟...
إنها هي ( ممبا ) يا صديقي تلك الأم التي كانت تقرأ علي تسامحها
وكرمها وعفتها وكبرياءها من خلال تصرفاتها اليومية المعتادة التي تمارسها
....فلا اذكر أن رأيتها يوما كئيبة أو حزينة أو مضطربة رغم كل نوائب الدهر
وعثرات الزمان التي مرت بها ...ولم أشهدها يوما إلا وهي بهية الطلعة مكتملة
الزينة حاضرة ها هنا ومع شروق كل شمس وإطلالة كل نهار....وعلى شفتيها
عبارات الشكر والحمد لله.!؟
* * *
أما مداخلة الأخت المبدعة سها واعتبار ( ممبا ) رمز لزمنين منفصلين
( الطفولة المرتبطة بالأم والشباب المرتبط بالأب ) فهي تأخذ بالقصة إلى
أبعاد أخرى لم اقصدها.
( فممبا ) هو أي أب أو أم يقوم أي منهما بدوره كاملا.... ويتجسد
هذا الدور بالعناية بالطفل ( الطفلة) وتربيتهم وتعليمهم على خوض الحياة
بخصوصية وتميز كل منهما.
ممبا هي أم حاضرة بغياب الأب وأب حاضر بغياب الأم (جسدي أو معنوي)
ويجسد أي منهما حضور الآخر بمنتهى التسامح.
وهذا يقودني إلى تساؤل أخر مرادف لتساؤلي السابق: كم أب في هذا
الكون يشبه أبي ؟.
كم أب في هذا الكون يترك مكانه المعتاد في فراشه لطفله الرضيع بعد
أن يطبع قبلة الرضا والبهجة والتسامح على وجنتيه وكأنه هو من يتمتع بذلك
الدفيء والحنان ويغادر غرفته على رؤوس أصابعه وكأنه فاز بأجره وبجنته.؟....
كم أب يمكن أن يتحمل نزوات ونتائج مغامرات أولاده دون أن يرفع يدا له
بالضرب أو لسانه بالسب.؟... وكان يبدع في مناوراته التربوية فيخلص إلى
النتائج التي يرغبها دون أن يفقد هيبته أو احترامه أو يعرض كبرياء أولاده
وافتخارهم بأنفسهم للإساءة... كم أب يشبه أبي ( وهو الذي ينتمي إلى القرن
الماضي ) فيتيح لوالدتي بتسامحه مصاحبتنا إلى دور السينما لنكتشف العالم
الزاهي الباهي المتحرك لأول مرة في حياتنا.؟ فكان حاضرا من خلالها يعلمنا
الشجاعة كيف تكون والشهامة كيف تدرك.... ولهذا كنت سأستعير الجنة لكي أضعها
تحت قدميه لولا أنني اعتبرته في النهاية جزءا لا يتجزأ من خلية وروح وطبيعة
إنسانية واحدة ففضلت أن أزيحها لأضعها تحت قدميه لأنها بالنهاية لم تغادر
أي منهما فهي في المحصلة دور ومكانة واحدة حفظه العمل الذي يقوم به أي
منهما وليس موروثا حكما لجنس معين.
* * *
وقد سعدت باستقبال الأخ الأستاذ محمد البشير لممبا كمخلوق جديد
.؟... بل هو كذلك وأنا لا احتاج قطعا إلى الشطط بالخيال لأمنح هذا الرجل
المقدرة على الإنجاب لأنه هو بذاته مخلوق مثالي يجسد المعنى النبيل السامي
للخلق الأول....انه ادم الذي ملك صفاه الذكر والأنثى قبل أن تنفصل حواء عنه
وتأخذ معها بعض من خصائص الأنثى الذي حملها... إنهما معا ( ادم وحواء) قبل
أن يرتكبا الإثم وتظهر أدوات تكاثرهما وتميزهما وتكرس انفصالهما عن بعض !؟.
أنها العودة إلى الكمال.... إلى النبع .... إلى الوحدة الروحية
والجسدية كما أرادها الله لنا.
أنا لم ائت بجديد سوى أنني أعدت الاعتبار والاهتمام لمن يستحق.
والمرأة ( الأم ) عندي هي تلك التي تتحلى بالإضافة إلى أنوثتها
ورقتها تلك الشجاعة والحكمة في تلقي الصدمات دون أن تسقط.
والرجل ( الأب ) عندي هو ذاك الذي يتمتع بالإضافة لشهامته وقوته
للرقة والتسامح والعطف دون خجل أو حياء من أن ينال ذلك من كبرياءه.
واكبر مثال لنا سيرة نبينا الكريم والعظيم محمد(صل). |